مجلة البيان

لحظات أخيرة في عمر فأر

المركز الثالث

لحظات أخيرة في عمر فأر

بقلم: إسماعيل علي إسماعيل حامد (مصر)

        وقفَ مشدوهًا على قدميه الخلفيتين، يشب على أطرافهما، ممسكًا بأسلاك المصيدة، يعلو نميمه فيرتعش شاربه الرفيع، يحدق في السماء ثم يطرق إلى الأرض، في اندهاشٍ كبيرٍ يروح و يجيء في لهوجة و تخبُّط داخل المصيدة، لا يصدق أنه وقع في الفخ، طالما كان أحوط الفئران جميعًا، وقع بسهولة في فخٍّ بديهي، خانته حاسة الشم وأغفله حدسه بوجود مصيدة مختبئة في هذا المكان، يتحسر على تلك الخطوات التي اجترها إلى هنا، منذ قليل كان يغني، يشدو مرَحًا بلقاء حبيبته الذي كان في أحد أدراج المطبخ، أهداها قطعة جبن سويسرية كبيرة، كانت كافية لتمنحه في مقابلها قلبها مدى الحياة، تواعدا أن يعيشا معًا إلى الأبد، يتزاوجا فينجبا جرذانًا صغيرة، تملأ حيوات البشر صخبًا و ضجيجًا، قال لها في ثقة:

-سأعضعض ألواح الخشب من أجل أن أحفر لكِ بيتًا في جذع شجرة كافور وارفة.

فهمست في أذنيه في وداعة:

-سأبقى معك مدى الحياة، سنسطو سويًّا على أجولة الغلال، سنكوّن عائلة كبيرة تحتل عوالم بني آدم، سنكتب اسمينا في سماء المجد، حبيبين إلى الأبد.

ثم ذهب إلى الجانب الآخر من المصيدة، انزوى مُسنِدًا ظهره عليه، تذكر أبويه اللذين طالما نصحاه بالابتعاد عن دنيا البشر، قالا له مرارًا، لا تقترب من تلك الأقدام التي تدوس الأرض في عنف، لا تحاول أن تقتطع من أرزاقهم، فدنيا الله واسعة.

ثم ذكراني بذلك القريب الذي التقطه أحدهم من ذيله وأخذ يرج رأسه في الحائط حتى انفجر الدم من نافوخه، تذكر أخاه الذي هجره منذ زمن عندما تقاتلا على قطعة خبز يابسة سقطت من صوان في حجرة الخزين، تشاجرا فعلا نميمهما، أوشكا على الهلاك لولا أن الحجرة كانت مظلمة فحالت دون صلابة منفضة ربة البيت التي كانت تضرب كل شيء بعنف، في تلك الليلة قال له موبّخًا "كنا سنهلك بسبب جشعك" ثم تركه يمشي معرّجا على قدمه التي أصابتها خبطة بسيطة، و ذيله الذي قص منه بضعة سنتيمترات.

تذكر صديق عمره و رفيق أيامه، ذاك الذي وُلِد معه في نفس الدرج، شبَّا معًا، نشأا في كنف الأهل والأحباب، كانا دومًا يلتقيان في الحديقة الخلفية للبيت، يتسكعان على المواسير الملساء، يتراهنان على تسلق المرتفعات، أيهما يعلو أكثر من الآخر، كان يكسب الرهان تارة فيعزمه على بقايا حبيبات طماطم حامضة و تارة يخسر، أنقذه مرة من الموت المحقق، عندما حصره شاب أرعن في أحد الأركان وهمَّ بالانقضاض عليه، أوشك أن يفعصه بقدمه، فلا مفر، لولا أنَّ ذلك الصديق جرى مسرعًا على قدم ذاك الشاب، ثم صعد على بنطاله وقضم فخذه، منذ ذلك اليوم أصبحت مديناً له بمعروفٍ عظيم؛ قدَّم لي الحياة من رحِم الموت المحقق على طبق من ياقوت، رددت له الجميل بعدها بأيام، عندما وضع أحدهم مصيدة في أحد الأركان و علق في خطافها قطعة خبز باللحم وغطاها ببعض الأسمال و الأوراق، كانت الغرفة مظلمة، الباب موارب، لا يمرر سوى جسم صغير بحجمنا، مرَّ صديقي مسرعًا، لا يلوي على شيء، في غفلة كادت رأسه تدلف في المصيدة لولا أني ضغطت على ذيله بالخطأ فوقف فجأة، همَّ أن ينهرني لولا أنه وجد أمامه بسنتيمترات قليلة فمًا مفتوحًا عن آخره ينتظر الفريسة عسرة الحظ، خفق قلبه و ارتعشت أوداجه، تصبب العرق من جبينه، و انتصب ذيله من الخوف، نظر في عينيّ باكيًا فهدأت من روعه.

في تلك اللحظات أيضًا، تذكرت القط الذي رافقته دون عِلم عشيرتي، أي والله صاحبت قِطًّا، ذاك الذي جلبه صاحب البيت ليتخلص من عائلتنا، كان مفترسًا، يخمش الأرض بحثًا عنا، كنا نراه فيموت نميمنا، نهرول على أطراف أقدامنا من أمامه، في يوم جمعنا أبي وزعق فينا قائلاً:

إياكم وقط صاحب البيت، إذا رأيتموه في مكانٍ اتركوه و إن كان فيه وليمة، ففراغ بطوننا أقل ضررًا من وقوعنا بين مخالبه.

في يوم، شردت بعيدًا عن الدنيا في عوالمي الخاصة، كنت أدندن بأغنية جديدة ألّفت كلماتها لحبيبتي، ألقيت نظرة متثائبة إلى الأمام فوجدته أمامي مباشرة، يموء في تحد، يضرب بقدمه في الأرض في تحفز، نظرت إليه في توجس واستسلمت لقدري، لكنه بدأ كلامه متوعداً:

ألا تخاف منّي؟

فأجبته فزعًا:

بالتأكيد.

قهقه عاليًا ثم قال:

الآن انتهت مهمتي، لا تخف فلن أؤذيك.

نظرت إليه في استغراب فتابع:

ما دمت قد خفت منّي فلن يصيبك مكروه، أما إن كنت لا تخاف فهذا أمر آخر.

ابتسم في وجهي ابتسامة أراحتني، فأذابت جبال الخوف و الرهبة التي يصنعها مثله لآخر من عشيرتي، أفهمني أنه و أنا شبهان، آلتان ليس أكثر في خدمة بني البشر، جلبه صاحب البيت ليتخلص مني و ربما يجلب له كلبا مسعورا ليتخلص منه إن أراد أن يستغنى عن خدماته. اتفقنا على أن نصير صديقين ودودين، ففعلنا، حتى أنه كان يشرب طبق اللبن كل صباح ثم يترك بعضه لي ألحسه بينما يكون قد هرش جسده بطرف لسانه، مرَّت الأيام إلى أن ذهبت إلى الموت بقدمي، أواجه مصيري المحتوم، تتقافز الميتات إلى ذهني، هل سيمارس ساديته عليَّ فيضع المصيدة في بانيو ممتلئ بالماء الساخن إلى حافته؟ هل سينتشي عندما يرى فقاعات الهواء تتصاعد على سطح الماء ثم تقف للأبد بعد دقائق؟ هل سيميتني ميتة واحدة أم سيستلذ بأنفاسي المتقطعة ما بين الشهيق والزفير؟ هل سيربط طرف المصيدة بحبل ثم يرجرجها في الهواء مرات ويخبطها في الحائط حتى أموت، أم سيفاجئني بإنسانيته فيفتح لي بابها على مصراعيه و يقول لي في أدبٍ جم واعتذار وافر: تفضل، امتلك حريتك.

راودني هذا الاعتقاد الأخير، فهو لم يضع لي السم في كسرة الخبز ـ إن كان يريد قتلي وفقط؛ لفعل ـ إما أنه ينتشي بتعذيب فريسته أو أن لذته تتلاشى بمجرَّد صيدها.

بينما تتعارك التوجسات في مخيلتي، التف جمع من الأهل والعشيرة حولي، يتباكون لحالي، أمي تصرخ وأبي يتظاهر بالتماسك الجبري وأخي لا يقدر على حبس دمعة كبيرة في مقلتيه و صديقي يلتفت يمينًا و يسارًا بحثًا عن مخرج أو شعاع أمل يلوح على استحياء في الأفق البعيد، كلهم أتوا إلا حبيبتي، قالوا أنها لا تقدر على مشاهدتي و أنا على تلك الحالة، حرمتني من أن أنظر في عينيها نظرة أخيرة مفصحة عما يمور في قلبي من وجيب، سألتهم عن القط فذُهِلوا لسؤالي، فأجهزت على ذهولهم بالابتسام، فجأة أنيرت الأضواء في الحجرة شبه المظلمة فهرول كل منهم ليختبئ في جحر أو مخبأ.

***