مجلة البيان

انتهى الطريق

        خرجت من الغرفة مسرعاً بعد نهاية شجار مع زوجتي، لا أعرف كيف كانت البداية شرارةً أشعلت حريقاً، خرجت مهرولاً خوفاً من العواقب، قد أقول لنفسي لا أريد أن تصل الأمور إلى نهاية أرفضها، لكن زوجتي لحقت بي خارج الغرفة وهي تصرخ طالبة مني الطلاق، في هذه اللحظة عادت بي الذاكرة إلى أكثر من خمسين سنة من الزواج، بل إلى قصة حب نشأت ونحن في سن المراهقة ونمت هذه القصة وعرف بها الأهل بل تبارك الأهل فيما بينهم بأن الزواج سيحصل بين بدرية وحامد وأصبح الجميع يعرف ذلك وتم الزواج وعشت قصة حب جميلة وأنجبت منها وسافرت وانطلقت.

        كانت حياتي معها كلها حب، كلها وله، وتخطينا الستين عاماً من الزواج والسعادة إلى أن جاء ذلك اليوم الذي عثرت به صدفة على تليفون كنت قد كتبته على ورقة وتركته في جيبي وقالت لي بدهشة: تليفون من هذا؟ قلت لها: إنه تليفون إحدى الصحافيات أجرت معي مقابلة بحكم أنني رجل أعمال ناجح، ومن يومها وهي تبحث في جيوبي، وكنت أغض النظر وأسامح لأن حبها كان أكبر من كل شيء في حياتي، لكنني أيضاً كنت أعاتب نفسي كثيرا على نزوات لي وعلاقات نسائية هي لا تدري عنها وأنا حريص جداً أن لا أترك أي أثر لهذه العلاقات، لكن أيضاً لا أعرف كيف وقعت على اسم إحدى النساء التي عرفتهن، التقطت الرقم من الهاتف النقال واتصلَتْ عليها وعرَفْت أن اسمها نشوى وتحدثت معها كأي امرأة غريبة، لكن نشوى سألتها مباغتة من أين حصلت على هاتفي؟ فقالت بدرية: هذا أمر سهل لقد عثرت عليه في تليفون زوجي! فتداركت نشوى في الحال: من زوجك؟ قالت لها بدرية بشيء من الإصرار: أنت تعرفينه! وهنا ارتبكت نشوى وهتفت بصوتٍ مخنوق: حامد! فقالت لها: إذاً أنت تعرفين حامد؟ وتداركت هنا نشوى الحال وقالت: حامد رجل أعمال ناجح وأنا مندوبة في إحدى الشركات وقد هاتفته لعمل يتصل بالشركة، وأيضاً تقبلت بدرية العذر وقالت لها مع السلامة بصوت بارد، ولكنها في الحقيقة كانت تغلي من الداخل، حامد يخونها، فتاة اسمها نشوى، والتقى الزوجان على مائدة الغداء وتحدثت بدرية بصوت يحمل التمني وهي تقول لزوجها: هل تعرف يا حامد لو قدر لي أن أحمل من جديد لسألت الله أن يهبني فتاة وأن أسميها نشوى!! قالت الاسم وهي تنظر بقوة في وجه زوجها الذي بدأت على وجهه بعض التجاعيد، نشوى, اسم جميل ولكن ليس في الإمكان أن ننجب، فقد توقفنا، فلكل وقت -كما يقولون- آذان، وعادت بدرية لتقول لا أعرف لماذا أنا معجبة باسم نشوى! قال لها وهو يحاول أن يبتعد عن نظرات وجهها: نشوى اسم جميل لا خلاف في ذلك، وهنا وجهت إليه سؤالاً: أتعرف واحدة اسمها نشوى؟ بشيء من الارتباك.. لا ..لا أعتقد ذلك، وهنا قالت: ألا تعرف هذا الرقم وذكرت له الرقم فقال لها: لا أذكر، قالت: طبعاً لأن هناك كثيرات، فترك الطاولة وهو يقول أحلام كبيرة يا بدرية، قالت له: أحلامي أصغر من الواقع الذي أنت تعيشه، وانتهيا من الغداء وذهب هو إلى الصالون وذهبت هي إلى غرفة النوم، وكل منا يفكر بطريقته الخاصة، أنا أفكر كيف أهرب من هذا المأزق، وهي ذهبت إلى أنها تفكر كيف تعثر على الدليل المادي طبعاً، جدت في نفسي الشجاعة أن أدخل غرفة النوم وأنا أضحك محاولاً أن أكون بريئاً لكنها صدمتني عندما قالت متى آخر مرة رأيت نشوى؟ فقلت لها بارتباك: أي نشوى تقصدين؟ فقالت: انظر إلى هاتفك لقد نسيته أنت اليوم، فقال هذا صحيح .. قالت انظر إلى هاتفك تجد تاريخ المكالمات مسجلة فاصطنع حركة أنه ينظر إلى شاشة النقال ليعرف التاريخ وكان تاريخ المكالمة قبل لقائهما بثلاثة أيام.. فقال لها إنها إحدى المندوبات جاءت تريد أن تعمل لدينا بالشركة وقبل أن تأتي اتصلت، وهنا باغتته: مندوبة تأتي بعد العاشرة مساءً!! حامد هل هذا معقول؟ الذي أعرفه أن جميع الفروع التي تملكها ومحلاتك التي تزاول التجارة من خلالها تغلق ما بين السادسة والتاسعة أليس هذا صحيحاً؟ فازداد ارتباكي وأنا أقول لها بشيء من الخفقان ليس في قلبي بقدر ما هو في لساني، فقلت لها: يا بدرية لا تذهبي بأفكارك بعيداً، إنها مندوبة إحدى الشركات وكنت يومها في مكتبي أنتظر مكالمة من الخارج، فضحكت بدرية مرة أخرى وهي تقول يا حبيبي يا حبيبي .. إنك دائماً تتلقى مكالماتك الخارجية وأنت عندي في البيت، الآن شبكة الاتصالات أصبحت أسهل من النظر إلى راحة اليد، حقيقة لن أجد كيف أرد عليها، حاولت، ولكنها قالت بصوت حاد: ألا تعترف ألا تشعر بالخيانة؟ وحقيقة مرة أخرى صدمتني كلمة الخيانة، هل أنا خائن فعلاً!! رجعت بذاكرتي إلى تلك السنوات الجميلة التي عشتها مع بدرية، وهل هي سنوات تدفع إلى الخيانة أم هي تمنع الخيانة كان حبي خيمة كبيرة تغطي حياتي، حبي لبدرية، وأيضاً كنت لا أجد حرجاً في أن أنتقل في علاقات نسائية هنا وهناك، وجدت نفسي حائراً كيف أجيب! ولكنها عادت تنظر إليَّ نظرات حادة قاتلة وهي تقول: خوفي يا حامد أنك كنت تمارس هذه اللعبة أو هذه الهواية منذ أيام زواجنا الأولى؟ فقلت لها وأنا أتدارك نفسي: أي هواية؟ أي لعبة؟ فعادت مرة أخرى لتقول الخيانة.

        وصدمتني الكلمة مرة أخرى أن كلامها يبدو صحيحاً أيام الشباب، ولكن سألت نفسي لماذا أخونها وأنا في هذا العمر إنها ما تزال جميلة وشابة في مشاعرها وأحاسيسها وحبها لي، نعم هي لا تزال كما لو كانت فتاة في أول سنوات الزواج تسأل ماذا تريد في الغداء وماذا تريد في العشاء، كانت أسئلتها تصب في نهر الحب والإخلاص ولكن أنا كنت أمارس هواية في الخيانة، دون أن تدري، حافظت عليها سنوات وسنوات وكنت حريصاً وعندما دخلت الهواتف النقالة حياتنا كنت أكثر حرصاً، لسبب بسيط أنها، أي زوجتي، كثير ما تتصل من هاتفي الخاص، وبطبيعة الحال كنت أنا أتحاشى الاتصال من تليفونها الخاص إلا تلك المرة عندما نسيت رقم هاتف نشوى وحدث ما حدث وعدت أتساءل كيف الخلاص من هذه الورطة أو هذا المطب.

تركتها في الغرفة وخرجت وأنا أحاول أن أتدارك الموقف بأي شكل من الأشكال وفوجئت بها تخرج وتأتي وتقول لي اسمع يا حامد ما رأيك أن نبدأ من جديد قلت لها مدعياً الجهل: ماذا تقصدين يا جميلة؟ فقالت: سوف أسامحك هذه المرة ولكن أأمل وأتمنى ألا أرى اسم نشوى في هاتفك الخاص، وفي تلك الليلة ومنذ أكثر من خمسين عاماً من الزواج نمنا منفردين، هي في غرفة النوم وأنا في غرفة أخرى، وفي الصباح ذهبت إليها أطلب السماح، فقالت لي وهي تتثاءب، أتعرف يا حامد أنت كنت أقوى رجل في العالم في نظري حتى يوم البارحة لقد رأيتك صغيراً فحاول يا حبيبي أن تعود إلى حجمك الطبيعي وأن أرى فيك العملاق الذي عشت معه وأتمنى أن أنهي حياتي معه، إننا نقف الآن قريبين من نهاية الطريق، فليترك كل منا للآخر ذكرى فيها كل المفردات التي عرفها الإنسان إلا الخيانة.

قلت لها اليوم إجازة، لن أزاول العمل، سأكون معك طول اليوم، فقالت اسمع يا حامد دع حياتنا تسير كما كانت سوف نتناول الإفطار وتذهب أنت إلى عملك وأنا سأعد لك الغداء لأنني ببساطة سأعمل على نسيان الحادث، ولكنني لن أنسى أبداً أننا في نهاية الطريق.

فقلت لها أتمنى أن تكون نهاية سعيدة، فقالت وأنا كذلك.

ونهضت من سريرها لتعد الفطور، وأذكر تماماً إن طعم ذلك اليوم وفطور ذلك اليوم كان بطعم يوم العسل الأول في حياة بدور وحياتي، وإن نهاية الطريق رقم مجهول في حياة الإنسان؛ فكرت بهذا وأنا أستعد لمغادرة المنزل إلى عملي بعد إفطار شهي مع زوجتي المخلصة وزوجها الخائن.