مجلة البيان

أباريق الملائكة

المركز الثاني

أباريق الملائكة

بقلم: فاتح زيداني: (سوريا)

   على الشرفة كان رأسي ممتلئاً بالأمواج... موجةُ خوف، موجةُ حلم، موجةُ قلق من ندرة المياه في مدينتنا بسبب الحرب.

الصمتُ عباءةٌ تلفُّ المكان إلا من بكاءِ طفل، كأنَّ مغصاً أصابه، أو ربما شعرَ بالقلق في غياب أمه التي ذهبتْ لتبحثَ له عن شربة ماء.

توقف البكاء.

رجعتُ إلى حلمي الذي طالما رسمتُه لأولادي، لوحتُه دوماً في رأسي، أضيفُ إليها، و أزركشها، و فيهم أرى مجداً و تفوقاً، كأنهم شجرةٌ شبعتْ ماءً، و نَمَتْ تحت أشعة الشمس.

فجأة أتاني صوتٌ خافت من خلف باب الشرفة:

- لماذا لا تجلس بالداخل؟ ألا تشعر بالنسمة الباردة؟!

ثم أضاف الصوت:

- أعرف أنكَ تحب شربَ الشاي على الشرفة، لكنْ لم يعد لدينا من الماء ما يكفي حتى للشرب!

- لا عليكِ. ها أنا أنتظر صهريج الماء، و لابد أن أحظى و لو بقليل منه.

دخلتْ زوجتي، و رجعتُ إلى حلم الأولاد، شجرتُهم كأنما خرجتْ من رأسي، و صارت أمام عينيَّ. ها هي أغصانها تكبر وتمتد، و خضرةُ ورقها تسحر العين. ربّما لم أشعرْ ببرودة الطقس، لأن عبقَ زهرها المتفتح قد خدّرني!

الليلُ يقترب، وجدتُ مجرى أفكاري يعود بي إلى صباح هذا اليوم.. يومٍ مثقل بالهموم، و الصورِ المؤلمة، تذكرتُ تلك المرأة ذات العباءة السوداء المهترئة كأخلاق بعض الباعة، و هي تضرب كفاً بكف، و تكلم نفسها في السوق، و كأنّ مسّاً أصابها، كانت تقول:

         - آه. كيف لله أن يرحمنا إذا لم نرحمْ بعضَنا؟! كيف للفقير أن يعيش؟!

و رفعتْ يديها إلى السماء، و هي تتمتم:

       - الله لا يوفّقهم؛ إلى أين أوصلونا!

معَ غروب الشمس أخذتْ تختفي من لوحة الطبيعة التي أراها من الشرفة معالمُ المباني التي تركت الحرب ندوباً و شروخاً على وجوهها، اختفتْ أيضاً رؤوسُ الأعشاب التي تدلُّ على طلائع الربيع.

في تلك اللحظة دخل أذني صوتُ هدير! تفتحتْ في قلبي ابتسامة. لعله صهريج الماء، لكنَّ الهدير تلاه طلقاتُ رشاش! ثم طلقات مدفع!

ركضتُ إلى الداخل و أنا أتمتم:

- الله يعطينا خير هذا اليوم، و خير تلك المرأة.

ازدادتْ حدّة الأصوات، و انفجارات القنابل ورشقات الرّشّاشات بأنواعها، وبدأت ألسنة اللّهب تغزو السماء! صرختُ:

- أين الأولاد يا امرأة؟ ضعيهم في الغرفة الداخلية.. في زاويتها، و أنا سآتيكِ بالشّمع والكبريت.

جاءني صوتُها:

- معَ الشمع لا تنسَ علبةَ الإسعاف.

صرنا في الغرفة الداخلية، و معنا رعبٌ يملأ المكان. نسينا كلَّ شيء حتى الماء! قفزتُ من مكاني فجأة و أنا أغمغم:

- يا إلهي.. لقد نسيتُ أنبوبةَ الغاز على الشرفة. أخاف أن تصلها قذيفة، فتقتلنا جميعاً.

بعد إدخال الأنبوبة إلى المطبخ عدتُ إلى مكاني إلى جانب زوجتي والأولاد.

زادت شدةُ المعارك، دويُّ الانفجارات هزَّ الأرض من تحتنا، وراحت الطّائرات تقصف بلا هوادة.

التفتُّ إلى الأبناء، أتأملهم على ضوء الشمعة.. ابني الصغير كان يحدق إليَّ بعينين باهتتين،  حابساً أنفاسه، وكأن قلبه قد توقف! أما الثاني فقد كوّر جسده بين ساعديه، و ألصقَ رأسَهُ بركبتيه، و راحَ يهتزّ إلى الأمام والخلف، كأنه عجوز في عقده التاسع!

مددتُ يدي إلى وجه ابنتي، كأن ماءً بارداً صُبَّ على وجهها! أهو عرقٌ أم دموع؟ أم الاثنان معاً؟ همستُ لها:

- لا عليكِ يا ابنتي نحن بحمى الرّحمن.

انقضت ساعات وما زال القصف مستمرّاً! كم تمنيتُ أن يستغرق الصغارُ في نوم عميق، لكنهم لم يناموا..!

وضعتُ لفافة التبغ بين أصابعي، كانت يابسة، كأنها محشوّة بالخوف، أشعلتُها قائلاً لنفسي: سأنهيها بنفَسٍ واحد لأحرقَ تبغَها الغريب.

تحت دخانِ اللفافة سمعتُ زوجتي تتمتمُ بخشوع، و بذراعيها تلف الأبناء. عرفتُ أنها تقرأ القرآن، و تتضرع إلى الله من أجلنا، بدا وجهها شاحباً كأن ملك الموت جاءها يصفّق بجناحيه!  فجأة توقفت شفتاها عن الحركة، و قالت لي:

- تعال... اقتربْ مني أكثر.

نظرتْ إليّ بعينين ثملتين بالمحبة، والخوف، والذكريات الجميلة، فأحسستُ بقشعريرة هائلة تخترق جسدي، آه... لا أريد تلك الذكريات، ذكريات ما قبل الموت.

مدّتْ كفها تريد أن تمسك يدي. آه... يا ربي كم أكرهُ لحظاتِ الوداع!

كانت الشمعة في رمقها الأخير، و قد تنطفئ في أيّ لحظة. أإذا تلاشى ضوؤها سينتهي كلّ شيء؟ هل الحياة معلقة بضوء شمعة؟

حاولتُ أن ألبيَ طلب زوجتي، أمسكتُ يدها، حاولتُ أن أنهضَ لأقترب منها أكثر، لكنَّ  مفاصلي كانت متيبسة!

فجأة.. وصل صوتٌ عنيفٌ، تلاه انفجار، ارتميتُ محتضناً الأولاد وأمَّهم! سمعتُ زجاجَ النافذة يتكسر، وانطفأت الشّمعة!

وجدنا أنفسنا في خيمةِ ظلام يرفرفُ فيها الخوف والموت، وسمعتُ صوتَ ابني الصّغير الملتصق بي ينادي:

- أبي أريد الماء.

- حبيبي انتظرْ، الآن تأتي الملائكة و معها أباريق من الفضّة، فنشرب جميعاً شربة هنيئة لا نظمأ بعدها.

ثم أضفتُ و كأننا دخلنا برزخاً آخر:

- حبيبي اطلبْ كلّ ما تتمناه، فأنتَ بين رفاقك من الملائكة، و الله سيحقّق أمانيك.

- أبي، كلّ أمنياتي؟

- نعم كلها، أغمضْ عينيك وتمنَّ من الله.

شعرتُ بأنه تمنى الماءَ أولاً، و شعرتُ بعد لحظة بماءٍ أخذَ يتدفق في جوفه، وها هو نبضه ينتظم، وحرارة جسده تبرد!

تابع ولدي طلبَ أمنياته دون كلام، وأنا كنتُ أفهم ما يقوله عبر مسارب الإحساس:

- آه. يا ربي. أنتَ تعرف أن الأطفال يحبون التفاح، لذلك أتمنى تفّاحة كبيرة مثل الكرة الّتي كنتُ ألعب بها مع رفاقي. أتمنى أن أذهبَ إلى المزرعة لأركض خلف الفراشات الملوّنة، و ألهو بطائرتي الورقية. أتمنى.. أتمنى أن أصعدَ إلى شجرتي التي أحبّها في مزرعتنا، و أقطفَ بعضاً من ثمارها. أتمنى أيضاً أن يكون لي جناحان لأحلّق مع العصافير، لأتدحرجَ فوقَ غيمة كالبساط، و أمتطي غيمةً تشبه الحصان، و هناك في السماء أغنّي أغنياتٍ رائعة دون ضجيج. أتمنى و أتمنى.. أَن أراقبَ الأزهار و هي تتفتّح تحت ضوء القمر، أن أتنفس نسيمَ الصّباح نقياً، خالياً من روائح البارود و الدخان، أن أكون مثل أطفال العالم تلميذاً يتأبط دفاتره و كتبه و يمضي إلى المدرسة، وعلى مقعده الخشبيّ يرسم حلمه، و يلوّنه بألوان قوس قزح، لا بالدم.

بينما كان ولدي مسترسلاً في أمنياته سقط شيءٌ هائلٌ على السقف من فوقنا، و أحسستُ بخيط من الدم ينسابُ من رأسي، نظرتُ لأرى ما حولي، كانت الأشياء مبهمة، و كأن عنكبوتاً نسج خيوطه فوق عينيّ!

        أدركتُ أنني مصاب حاولتُ النهوض، فلم أستطع! حاولتُ أن أقول شيئاً لأطمئن على زوجتي و أطفالي، لكنَّ فمي كان معطَّلاً! أحسستُ بيدٍ رحيمة تمتدُ نحوي. إنها يدُ زوجتي. ربما هي مصابةٌ أيضاً، ولا تقوى على الكلام! أنا الآن وأسرتي من أهل الكهف، فوقنا ركامٌ، وبابُ الغرفة مسدود. هل سيأتي أحدٌ لإنقاذنا؟ أم سنموت هنا؟ لم أجد جواباً على شفة الظُّلمة!.

***