مجلة البيان

كتاب "دراسات لغوية" للمؤلفة د. نورة المليفي.. محاولة جريئة لدخول عالم النحو

(1)

       ضمن إصداراته العلمية قدم المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب كتاباً جديداً في مجال اللغة، بعنوان "دراسات لغوية" تأليف د.نورة المليفي، هذا المجال من أدق مجالات الكتابة، لصعوبة التجديد والإبداع فيه، ولما يتطلبه من دقة في الأداء، وقيود في التعبير؛ إذ لا يجوز أن تنداح العبارة ، أو أن يحلق اللفظ، أو تسخو الجملة بالمترادفات... مما هو داخل في طبيعة العملية الإبداعية أو الأدبية، بعيد عن طبيعة الكتابة في اللغة والنحو لأنها عملية علمية محضة.

       جاء الكتاب في (230) مئتين وثلاثين صفحة من القطع الصغير، وبخط صغير كان يمكن مضاعفة عدد الصفحات لو أنها اختارت بنطاً أكبر للحرف المطبعي، وحبذا لو فعلت لأن الحرف المختار صعَّب القراءة حتى على أصحاب النظر السليم، وجعل الصفحة، بسبب صغر الحرف وتقارب الأسطر، تبدو وكأنها سوداء من شدة تزاحم الحروف والكلمات والأسطر، وهذه ملحوظة توجه إلى المجلس الوطني كي يختار نوعاً أكبر وأوضح لمطبوعاته.

       قسمت المؤلفة الكتاب إلى مقدمة، تلتها البحوث المؤلفة، وهي تشكل فصول الكتاب، وكانت قد نشرت من قبل في المجلات الأكاديمية الآتية: مجلة كلية دار العلوم (القاهرة) ومجلة كلية الآداب (جامعة الزقازيق) ومجلة رسالة المشرق من مركز الدراسات الشرقية (جامعة القاهرة) ومجلة كلية التربية (عين شمس) وهي كلها مجلات مصرية وجيدة السمعة وعريقة. وحسناً فعلت د. نورة إذ جمعت هذه البحوث المحكمة حتماً في هذا الكتاب الذي يسهل العودة إلى بحوثها، ومطالعتها على كل من يرغب في ذلك.

في المقدمة تحدثت الباحثة عن طريقة عملها في كل بحث، وذكرت أنها تعرض هذه البحوث على طلبة العلم "متمنية أن يجدوا فيها مبتغاهم، وأن يحققوا من خلالها طموحاتهم، وأن يدركوا أن طريق العلم وعر يحتاج لمزيد من الجهد والبذل والعطاء والتضحية...".([1])

بعدها لخصت طريقة عملها في كل بحث، وما لاقته من صعوبات وعقبات في أثناء مراجعته المادة العلمية وجمعها ثم صياغتها.. ولعلنا نأتي على ذلك كله من خلال عرضنا للبحوث الواردة، وهي أربعة فقط:

(2)

البحث الأول: كان بعنوان (سماعات الفراء الشعرية- دراسة لغوية) وقد حاولت الباحثة فيه، معتمدة على كتاب (معاني القرآن) للفراء، أن تجمع "ما رواه الفراء عن النحاة والرواة والأعراب"([2]) وتقصد ما سمعه الفراء وذكر اسمه أو لم يذكره، ثم قامت "بدراسة هذا المروي في الشواهد، حيث ذكرت أثر هذا المروي في إثبات القاعدة أو نفيها"([3]). ثم وازنت - كما تقول- هذا الكم الكوفي بآراء البصريين كي تصح الدراسة وتقوى([4])، وبلغ عدد القضايا التي جمعتها أربعاً وأربعين قضية، وهي قضايا نحوية أو صرفية وقلت فيها القضايا اللغوية، كالحديث عن إلزام المثنى الألف رفعاً ونصباً وجراً، والتغليب، وحذف نون الجمع من غير إضافة، والرفع على الابتداء..

       وحسناً فعلت الباحثة بهذا الجمع، ولكنها اكتفت به، ولم تنفذ ما وعدت به من الإتيان بالجديد، وهو الصعب فعلاً في الدراسات اللغوية والنحوية، ولم تحلل وتنقد ما جاءت به كي تصل منه إلى رأي جديد يفيد الدارسين، كإثبات رأي أو نفي آخر بموازنة ذلك بما يشيع على ألسنة الناس والكتاب في يومنا.

       كان يمكن في القضية الأولى التي عرضتها، وهي (إلزام المثنى الألف)، أن تنفي أفضلية هذا التوجه الشاذ لدى قلة من علماء اللغة القدماء وإثبات الرفع بالألف والنصب والجر بالياء  الذي أجمع عليه أكثر القدماء، وأخذ به كل المعاصرين، على حين لم يأخذ أحد من المعاصرين بإلزام الألف في المثنى لقبحه، وصعوبة جريانه على اللسان الذي تعود لفظ الألف في مكانها والياء في مكانيها. وهكذا كان يمكن للباحثة الكريمة أن تفعل في أكثر القضايا التي عرضتها.

وفي لغة الباحثة، على الرغم من جودتها ودقتها، أخطاء وعثرات، منها: جاء كتاب معاني القرآن مليئاً بأشعار العرب، فلفظ (مليئاً) من الأخطاء الشائعة وصوابه (ممتلئاً) وأجمل منه (حافلاً) (ص13). ومنها استخدام لفظ (قورنت) وهو خاص بالآداب العالمية حسب تحديد مجمع اللغة العربية في القاهرة، بدلاً من (ووزنت) فالموازنة للأمور المحلية والمقارنة للأمور العالمية والأدب المقارن. ومنها قولها : (في حين) والصواب( على حين (ص15). وأظن ظناً أن ثمة خطأ في روايتها قول الشاعر:

       ثلاث من ثلاث قداميات من اللاتي تكن من الصقيع (ص14).

       فالبيت مكسور الوزن ولا معنى له بهذه الرواية التي جاءت في الدراسة. وثمة خطأ ربما كان مطبعياً في قولها : (أنشدني بعض بن عامر) والصواب: (بعض بني عامر) ص (14) وتكرر في (ص18) في قولها: (ونسبت أيضاً إلى بن العنبر) والصواب: (بني العنبر) وهذا من المنقولات التي يجب أن تراعى فيها الدقة المتكاملة. ومثله الخطأ في اسم راوية الشعر المعروف (رؤبة) حيث جاء بصيغة (رؤية) ص20. وفي (ص21) خطأ كبير في خفض أو جر كلمة عضون جمع عضة، حيث جاء بلفظ (عضن) وصوابه (عضين).

(3)

البحث الثاني: وكان بعنوان (الضرورة الشعرية- دراسة أسلوبية في شعر حسان بن ثابت) بدأت الباحثة دراستها بمقدمة أرادت منها أن تحدد هدف الدراسة وهو الرد على الأصمعي الذي ضعف شعر حسان بن ثابت (ص 75) بصورة عامة، وليس بسبب الضرائر أو الضرورات الشعرية. وحين أرادت أن ترد على الأصمعي وتدافع عن شعر حسان لجأت إلى حصر الضرائر الواردة في شعره في ثلاثة أنواع، هي: ضرائر الزيادة، وضرائر الحذف، وضرائر التقديم والتأخير، وضرائر البدل أو الإبدال، وذكرت الشواهد اللازمة من شعره على مدى أقل من أربع صفحات، وكان يمكن أن تكتفي بهذا القدر، ثم تختم بالرد على الأصمعي نفياً لرأيه أو تأكيداً له، وبإيراد النتائج اللازمة. ولكن الباحثة، لأمر ما، أعادت الشرح والقول في هذه الضرائر من جديد، وكررت شواهد حسان بن ثابت، وهي قليلة لا تمثل ظاهرة تستحق البناء عليها، وأكثرت من الشواهد الأخرى من غير شعر حسان، فتضخم البحث وامتد من ص (89) إلى ص (130) أي أكثر من أربعين صفحة لم تحو إلا القليل من شعر حسان، موضوع البحث، مع كثرة من شواهد الآخرين غير لازمة وفق عنوان البحث.

أما الخاتمة فجاءت لتبرر ضرائر حسان الشعرية، وتمنحها القبول والشرعية، ومن ثم فإنها تنفي حكم الأصمعي بضعف شعر حسان عامة، وهي نتيجة جيدة وتتناسب مع ما عرف عن شعر حسان من جوده وقوة.

وحرصاً مني على إتمام الفائدة من البحث أذكر عدداً من الأخطاء التي وقعت من الباحثة سهواً فأضرت بالمعنى؛ منها ص91 قولها: (منع أخيك) و الصواب" أخيل" وفي ص 117 في بيت حسان:

لنا القدم الأولى إليك وخلفُنا              لأولنا في طاعة الله تابعُ

       جعلت (خلفنا) مبتدأ خبره كلمة (تابع) والصواب، كما جاء في ديوان حسان، نصب خلفنا على الظرفية، خبر متقدم لتابع.

(4)

البحث الثالث: وكان بعنوان (الجمع عند السيوطي من خلال الأشباه والنظائر - دراسة لغوية) ويعد هذا البحث- في رأيي- تلخيصاً ممتازاً لكتاب السيوطي يمكن أن يفيد الدارسين، ويسهل عليهم الاطلاع عليه، والإلمام بطبيعة محتواه. لكن الباحثة هنا - شأنها في كل بحوثها- تميل إلى جمع المادة العلمية، وعرضها، مع النأي بالنفس عن إبداء الرأي، وربط المادة العلمية القديمة التي أتى بها السيوطي باستعمالات الكتاب المعاصرين. نحن في حاجة ماسة إلى ما يؤكد صحة استعمالاتنا الحديثة أو يؤيدها، ولاسيما في قضايا الجمع والتثنية، والخطأ الدارج بين الخاصة والعامة على السواء.

(5)

البحث الرابع والأخير: وكان بعنوان (دور النثر في التقعيد اللغوي- دراسة في مرويات سيبويه المجهولة). وقد مهدت للبحث بمقدمة ضافية وضحت فيها ما رواه سيبويه عن العرب بعد أن تحول عن دراسة علم الحديث إلى دراسة علوم اللغة، وذكرت أن ما ذكره سيبويه من كلام العرب يمكن حصره في اثني عشر قسماً من الروايات، والحقيقة أن هذا التقسيم مغرق في التعدد، ولا يعقل أن يكون، لأن معنى هذا أن روايات سيبويه يشوبها شيء كبير من الشك والفساد، والحقيقة أنها أوغلت كثيراً في التفريق بين رواياته، فجزء مما ذكرته سمعه سيبويه عن العرب الفصحاء، أو عن فصحاء العرب، أو ممن يوثق به منهم، أو الموثوق بهم، أو سمعه أحد شيوخه عمن يوثق به منهم.. ما الفرق؟ كلها يمكن حصرها في صنف واحد...!!

       لهذا ذهبت بعد كل هذا التصنيف إلى حصر روايات سيبويه في قسمين؛ الأول: ما رواه عن العرب من غير إسناد بقوله: قول العرب، قول بعض العرب، بعض العرب يقول.. والآخر: ما رواه سيبويه عن العرب بإسناد مجهول؟!! وهنا نتساءل أين ذهبت رواياته الصحيحة السند التي جعلت منه ذلك الاسم الكبير في ريادة النحو والتقعيد للعربية؟!.

       وقد اعتمدت الباحثة على هذين الصنفين من الرواية لدى سيبويه، الرواية المجهولة السند والرواية من غير إسناد في دراستها هذه، مما يضع الدراسة أمام اتهام واضح بالقصور والضعف وعدم الصلاحية لإظهار أثر روايات سيبويه النثرية في التقعيد اللغوي والنحوي!!.

لكنها عادت وبررت الجمع بين روايات سيبويه المسندة الموثوقة وهذه الروايات التي لا يجوز الاعتماد عليها، بأن جل روايات سيبويه موثقة إلا القليل منها جاء من غير إسناد أومجهول السند!!.

لماذا إذاً كل هذا العنت؟ لماذا لا نكتفي بالموثوق وهو الأكثر ونهمل غير الموثوق أو المسند، وهو الأقل، ونجري بالبحث في طريق مستقيمة تنتهي بنا إلى نتائج مرضية؟!.

وحين جاء وقت التمثيل لروايات سيبويه النثرية كان الاعتماد على شواهد الشعر بدءاً من ص (189) وحتى ص (216) وكأن ما لديها من مرويات النثر لا يناسب أو لا يكفي لتقعيد القاعدة.

       وقد أشارت إلى ذلك في خاتمة البحث إذ ذكرت أن الشاهد النثري كان يجري إلى جانبه الشاهد القرآني والشاهد الشعري معاً، ولكنها لم ترصد النتائج اللازمة التي يجب أن تنتهي إليها في إبراز أهم القواعد التي بناها سيبويه أو غيره على ما رواه سيبويه من روايات نثرية، الأمر الذي يفقد البحث قيمته العلمية، والأهمية التي وضع من أجلها.

       وفي البحث عثرات وأخطاء أشير إلى أبرزها لضرورة ألا تتكرر في أبحاث قادمة، منها استخدام لفظي (عموماً) و (خصوصاً) والصواب (عامة)، و (خاصة) على أن يستخدما متأخرين عما قبل كل منهما (191)، ومنها إهمال نقطتي الياء في (وقد يروي) فتكتب (وقد يروى) مما يصعب تحديد المعنى ويلبسه بغيره. (192). ومنها كتابة مئة على صورة (مائة) ص (203). ومنها تكرار بين في قولها (ص192): "والتمييز بين العرب الموثوق بهم وبين من ترتضي عربيتهم وبين من لا يتهم وبين بعض العرب.." والصواب حذفها كلها إلا الأولى.

(6)

       وعدا ما سبق من حسنات ومثالب في المادة والمضمون فثمة ملاحظتان على خطوات البحث العلمي؛ فالباحثة جمعت مادة ممتازة في كل الأبحاث، وصنفتها بطريقة جيدة، لكنها وقعت في خطأين؛ تكرار المادة، والحشو، سواء بذكر زيادات منقولة لا طائل منها، كما وضحنا، أو بتعليقات لا تغني البحث ولا تقود إلى نتائج علمية أو أية نتائج متوقعة، مما جعل البحوث، في النهاية مجرد عرض للمعلومات لا أكثر، وأبعد الكتاب عن أن يكون إسهاماً مهماً في المكتبة العربية.

وعن تسمية الكتاب (دراسات لغوية) فالتسمية بعيدة الدلالة على المضمون، فالدراسات بعضها نحوي، بل أغلبها، وواحدة في العروض، لهذا كان الأجدر أن يكون الاسم (دراسات في علوم اللغة أو علوم العربية).

أما إشارتنا إلى ما وقعت به الباحثة من أخطاء لغوية ونحوية فغرضنا منها التنبيه والإفادة كي لا تتكرر، ثم إن مثل هذه الأخطاء لا يجوز أن تندّ عن أصحاب الاختصاص الدقيق في هذا المجال، وهي لا تقلل من قيمة البحث التي تنحصر - في رأيي- في كم المعلومات النحوية والعروضية واللغوية التي حرصت الباحثة على جمعها وإيداعها الكتاب.

       والقيمة الأخرى للكتاب تتمثل في شجاعة الباحثة المتمثلة في إصدار كتاب في علوم اللغة أو في اللغة أو في النحو أو في العروض، وهو مجال أصبحت الكتابة فيه نادرة لصعوبتها من جهة، ولقلة الثمار المرجوة؛ إذ ما ترك الأول للآخر شيئاً، وعلى الرغم من ذلك جاء الكتاب محاولة جريئة أو رغبة في التجديد والإبداع!!.



([1]) درسات لغوية ص 14.

([2]) المرجع السابق ص 15

([3]) المرجع السابق ص 15

([4]) المرجع السابق.