مجلة البيان

شيخ المحققين العرب د.حسين نصار* لـ"البيان": طه حسين أدخلني الجامعة.. والشللية منعتني من عضوية مجمع اللغة العربية

الدكتور حسين نصار قامة علمية وأكاديمية مرموقة، يعمل أستاذا متفرغا للأدب العربي القديم بكلية الآداب- جامعة القاهرة، ولد عام 1925 بمحافظة أسيوط (صعيد مصر) التحق بكُتاب القرية آنذاك، وكان أول فرد في العائلة يلتحق بالثانوية العامة، التحق بكلية الطب جامعة الاسكندرية عام 1943 ولكنه لم يكمل دراسته بها نظرا لنشوب الحرب العالمية الثانية، فعاد إلى القاهرة والتحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وحصل على درجة الليسانس في الآداب عام 1947، ثم على درجة الماجستير عام 1949 وكان موضوعها: " نشأة الكتابة الفنية في الأدب العربي " ثم حصل على درجة الدكتوراه عام 1953 في المعجم العربي وكان عنوانها: " المعجم العربي.. نشأته وتطوره ". تتلمذ على يد الأستاذ مصطفى السقا الذي علمه أصول التحقيق، فكانت باكورة تحقيقاته في مجال التراث ديوان " سراقة البارقي " عام 1947، ثم توالت الدواوين التي حققها مثل: ابن وكيع التنيسي (1953)، عبيد بن الأبرص (1957)، جميل بثينة (1957)، قيس بن ذريح (1960)، الخرنق بنت بدر بن هفّان (1969)، وظافر الحداد (1969). وغيرها من الدواوين. كما حقق الجزء الأول من معجم (المحكم) لابن سيده (1958) بالمشاركة مع آخرين، والجزأين: السادس، والثالث عشر من معجم (تاج العروس) للزبيدي (1969، 1974).كما ترجم كتاب تاريخ الموسيقى العربية إلى اللغة العربية، والعديد من الكتب في التاريخ الإسلامي. وهو يعمل في صمت، بعيدا عن الشللية والمصالح الشخصية والتي حرمته من عضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة.ولكن إنتاجه العلمي الغزير أهله لكي يحمل لقب شيخ المحققين العرب بامتياز.

 

 

 

§        بدأت مشوارك العلمي كطالب بكلية الطب، ولكنك لم تستمر في دراسة الطب واخترت قسم اللغة العربية بكلية الآداب.. ما سر هذا التحول ؟

- بعد نجاحي بالثانوية العامة (القسم العلمي) كانت درجاتي تؤهلني للالتحاق بكلية الطب بجامعة الاسكندرية، حيث كان مجموع درجاتي يقل عن درجة القبول بطب القاهرة نصف درجة، ورحلت إلى الإسكندرية عام 1943 – 1944، للإلتحاق بكلية طب الإسكندرية، وكانت الإسكندرية تتعرض خلال هذه الفترة للغارات الألمانية باستمرار أثناء  الحرب العالمية الثانية وفوجئت بأن أقاربي هاجروا من الإسكندرية خوفا على حياتهم.واكتشفت أن الحياة مستحيلة بالإسكندرية، ولم تعد تلائمني، فقررت الرحيل إلى القاهرة والالتحاق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب.

 

§        كيف بدأت رحلتك الشاقة مع تحقيق كتب التراث العربي ؟

- عقب التحاقي بكلية الآداب اتصلت بالأستاذ العلامة المحقق مصطفى السقا وكان من كبار شيوخ التحقيق آنذاك، وكان أستاذا في النحو وتعلمت على يديه أصول التحقيق، وكان الأستاذ السقا الوحيد بالكلية المتخصص في تحقيق التراث، وإن كانت مكتبة الجامعة قد أصدرت بعض الكتب ولكنها كانت قليلة العدد. وفي البداية اتخذت مهنة التحقيق كهواية قبل أن تتحول إلى احتراف وكانت البداية مع تحقيق النصوص التراثية وأنا ما زلت طالبا في الفرقة الرابعة بالكلية، فحققت ديوان " سراقة البارقي " عام 1947، ثم توالت الكتب المحققة مثل دواوين: ابن وكيع التنيسي (1953)، عبيد بن الأبرص (1957)، جميل بثينة (1957)، قيس بن ذريح (1960)، الخرنق بنت بدر بن هفّان (1969)، ظافر الحداد (1969)، وغيرها من الأعمال التراثية.وخصوصا الإنتاج المصري العربي القديم لأني كنت أستاذ كرسي الأدب المصري في العهد الإسلامي وعندما ترقيت أستاذاً كان نظام الكراسي ما زال معمولاً به.وإذا أمعنا النظر جلياَ إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وما تلاه حتى بداية الحرب العالمية الأولى فإننا نجد أن الاتصال بالغرب كان قوياً، وكانت آثاره بعيدة المدى في حياة المصريين والعرب، وقد صاحب هذا الاتصال بالغرب يقظة ذاتية وصلت الأمة بالماضي العربي العزيز في عصوره الذهبية، وهذه اليقظة، وذلك الاتصال بالتراث والتاريخ، كانا عاملي القوة وجناحي الحركة نحو التقدم إلى حياة جديدة، وبسبب هذين العاملين انجلى الموقف آخر الأمر عن انقسام زعماء الإصلاح – بشكل عام – إلى فريقين (فريق ينظر إلى قديم الشرق والمسلمين يتغنى به ويستوحيه، وفريق ينظر إلى ما حقق الغرب في حاضره من تفوق، يزينه للمصريين ويدعوهم إلى احتذائه والسير على خطاه، وسرى هذان الأسلوبان في كل شؤون الحياة).

فريق يدعو الناس إلى الثورة على الماضي، ويدفعهم إلى الجديد دفعا لا رفق فيه ولا هوادة ويحملهم عليه حملاَ لا تدرج فيه، وفريق آخر يوقظ ضمائر الناس ووعيهم عن طريق الدين.

وظهرت آثار هذين التيارين في السياسة، فكان أنصار الجامعة القومية يمثلون الفريق الأول وكان أنصار الجامعة الإسلامية يمثلون الفريق الثاني. وظهرت في الأدب وفي الفن، فكان هناك فريق يتخذ قيمه الفنية من الأوروبيين، وفريق آخر يستمد قيمه من قديم العرب ومن تقاليد الشرق.. وظهرت في التعليم.. وظهرت في المجتمعات وفي سائر شؤون الحياة.. في الأزياء وفي آداب الاجتماع وفي أساليب العيش وأنماط الحياة.

وكان بين هذين الطرفين المتباعدين طريق وسط يجمع المعتدلين من أنصار المدرستين فيكادان يلتقيان، ولكن المتطرفين من الفريقين كانوا يبلغون في تطرفهم الشطط في كثير من الأحيان.

 

§        يرى الدكتور طه حسين في كتابه (في الأدب الجاهلي) الصادر عام 1924 أن الكثرة المطلقة مما نسميه الأدب الجاهلي ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين.. ما رأيك ؟

- كان طه حسين يرى أن القرآن الكريم يمثل حياة الجاهليين أكثر من أي كتاب آخر، وفي الحرب التي شنها على القيم الجاهلية يظهر هذا الموقف، فهو يرى أن القرآن أصدق تمثيلاً للعصر الجاهلي من الشعر المسمى بالجاهلي.

لكنه وضع مقياساً نقيس به الشعر، ونستطيع أن نتبين منه الصادق من المنحول، ولكنه لا ينسب الصادق للعصر الجاهلي وإنما ينسبه للشاعر الذي يمثله، ولكن متى كان يعيش هذا الشعر فهذا أمر لا يعنيه.وقراءة طه حسين للنص العربي إنما تعتمد على نوع من الثنائية القائمة على المصالحة بين المنهج والنص.

 

§        إلى أي درجة استغرق هذا الكتاب المنهج الديكارتي ؟ وهل هو منهج توليفي مركب من استرجاع لابن سلام، والشك في الشعر الجاهلي، بأن قريشاً كانت أقل شعراً في المرحلة الجاهلية، فاضطرت إلى أن تكون أكثر العرب انتحالاً في الإسلام ؟ أم أنه تكرار للاستشراق في القرن التاسع عشر الذي يشكك في الصحة التاريخية للنصوص في العهدين القديم والجديد، بل وفي التراث اليوناني القديم ؟

- لقد تأثر طه حسين بكل ما ذكرته في سؤالك، وكل الثقافات التي اطلع عليها باعتبار أن ابن سلام الجمحي أكثر من تعرض لظاهرة الانتحال في الشعر العربي القديم، وتبنى المستشرق الألماني (مرجليوث) منهج الشك في الشعر العربي أيضا، وطه حسين في بعض أعمال هوميروس حيث درس الأدب اليوناني أثناء إقامته في فرنسا.فكان طه حسين يعلي من شأن الظاهرة الأدبية، وتاريخها بشرط أن تكون أصيلة في ذاتها فيقول في كتابه (تجديد ذكرى أبي العلاء): " ولعمري إن عصراً ينبغ فيه من الشعراء الرضى والمتنبي وأبو العلاء، ومن الكتاب: ابن العميد وابن عبّاد والصابيء، ومن الفلاسفة: الفارابي وابن سينا وابن لوقا، ومن الأدباء: أبوهلال وابن المرزبان والآمدي والجرجاني، ومن النحويين: ابن خالويه وابن جني وأبو علي الفارسي والسيرافي. في عصر ينبغ فيه هؤلاء وغيرهم من أمثالهم، ومن الجغرافيين والمؤرخين والفلكيين، لخليق أن يكون عصر رقي ونهضة، لا عصر ضعف وانحطاط في العلوم والآداب.

 

§        أثار هذا الكتاب  - وقت صدوره -  جدلاً في الحياة الثقافية وصل إلى أروقة المحاكم.. لماذا اختفت المعارك الأدبية اليوم ؟

- لقد كان طه حسين والعقاد والرافعي يديرون معركة عنيفة ضد مدرسة الإحياء بقيادة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ثم توالت معارك محمد مندور ولويس عوض وغيرهم. والزمن اختلف، فالرافعي كانت ثقافته قديمة، ولم يدرس الثقافة الحديثة، وطه حسين ثقافته لاتينية فرنسية، في حين كانت ثقافة العقاد أنجلوساكسونية , هناك من توقف في دراسته عند المرحلة الإبتدائية مثل العقاد، وهناك من اكتفى بالثانوية العامة مثل علي أدهم، لكن مثقفي اليوم حاصلون على شهادات عليا كلهم على الأقل حصل على الشهادة الجامعية، ولعلك تذكر أنه قبل جيلين فقط في مجال الصحافة، كان معظم الصحفيين غير جامعيين.

 

§        برأيك.. ما الذي تبقى من طه حسين بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على رحيله ؟

- طه حسين صاحب مشروع ثقافي وتربوي واجتماعي وسياسي، أراد أن يحققه تدريجيا،  رغبة منه في النهوض بالعقل العربي، والنهوض بالمجتمع العربي لقد تحدى من تشبثوا بالخرافات في الفكر والدين والسياسة، وجعلوا من تلك الخرافات سلطة، فأصبحوا بها أصحاب سلطان، ولعل كل ما كتبه طه حسين كان نابعا من هذا التحدي طلبا لعوامل الثبات والاستقرار، وعوامل التغير والتطور، ورغبة في الظفر بتعادلية ترقى بها الحضارة العربية وسيبقى تراث طه حسين سواء في النقد الأدبي أو الترجمة الذاتية أو البحث التاريخي أو الإبداع الروائي أو الأدب الرمزي أو أدب الخواطر أو أدب الرحلة أو المقال الصحفي أو النصوص المترجمة بما يستحق تسمية المشروع.

وهو الذي فتح الطريق لمجانية التعليم أمام المصريين وغضب الملك بشدة جراء هذا القرار.ولقد دخلت الجماعة بفضل طه حسين الذي أنشأ مسابقة، يختار الطالب أي تخصص يريده، فإذا نجح وهو في مسقط رأسه بنسبة لا تقل عن 70 بالمائة، يأتي إلى القاهرة ليجري اختباراً شفوياً، فإذا نجح أيضاً في هذا الاختبار الشفوي بنسبة لا تقل أيضاً عن 70 بالمائة كان لهذا الطالب الحق في الالتحاق بالدراسة الجامعية مجاناً وكنت ضمن هؤلاء الطلاب.

 

§        لماذا يوجد لدينا شعر جاهلي ولا يوجد نقد جاهلي يواكب هذا الشعر ؟

- المجتمع الجاهلي كان مجتمعاً بسيطاً وبدائياً، وعندما انفتح العرب على الأمم الأخرى واطلعوا على ثقافاتها وحضاراتها انعكس ذلك على الحركة الثقافية فظهرت الترجمات والمدارس النقدية والموازنات.. إلخ. لكن في المقابل كانت تقام أسواق في الجاهلية لنقد الشعر وأشهرها سوق عكاظ.

 

§        برأيك.. هل تصلح نظرية (النظم) لعبد القاهر الجرجاني نواة لنظرية نقدية عربية ؟

- هل تعرف أن نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني هي الأساس لنقد "ريتشاردز" الإنجليزي، فالبعض يتصور أن كلمة نظرية شيء مهول، فالجاحظ كان لديه نظرية، والجرجاني كان لديه نظرية وهكذا.واليوم تنوعت الثقافات وانفتحت على بعضها البعض، وغزت اللغات الأجنبية الأزهر الشريف الذي يعد معقلاً للدراسات العربية والإسلامية المتخصصة وهذا ليس عيباً.والناقد الأمريكي ناعوم تشومسكي الذي يعد أكبر النحاة في العصر الحديث اعتمد في أطروحاته على الكثير من الأفكار الموجودة في النحو العربي، وبالتالي موضوعة الحذف تعد نظرية، وحكاية (العامل) في النحو تعد نظرية.وتشومسكي يرى أن الجملة نوعان:جملة ظاهرة، وجملة عميقة، والعميقة هى المحذوفة، والحذف باب أصيل في النحو العربي حيث يقول ابن مالك في ألفيته الشهيرة: " حذف ما يعلم جائز ".

 

§        قدمت دراسات عديدة عن المعجم العربي.. فهل نحن بحاجة إلى معاجم جديدة ؟

- بالتأكيد، فالحياة متغيرة باستمرار واللغة التي نستخدمها اليوم غير اللغة التي كان يستخدمها القدماء،  وما دامت اللغة متغيرة فنحن بحاجة إلى معاجم جديدة، فيجب أن يكون لدينا معاجم للتلاميذ ومعاجم للمهندسين ومعاجم للبيولوجيين، معاجم للمصطلحات العلمية، ولعلماء  الاجتماع والطب والأدب مثل معجم المصطلحات الأدبية للدكتور محمد عناني ومعجم النفيس لمجدي وهبة.. إلخ.وهذا يختلف عن لغة الكلام التي هي متطورة دائما.

 

§        لماذا لا يوجد معجم تاريخي للغة العربية ؟

- لقد ُبح صوتي في هذا الموضوع، وبالمناسبة موضوع أطروحتي للدكتوراه بعنوان (المعجم العربي.. نشأته وتطوره) عام 1953 ورفض الناشرون طبع الرسالة بحجة ارتفاع سعر التكلفة كما لا يوجد جمهور من القراء يقبل على اقتناء الكتب المعجمية إلى أن جاء أحد الرجال السعوديين المهتمين بالثقافة إلى دار الكتب المصرية وعرضت عليه فكرة طباعة الرسالة فطبعها على نفقته الخاصة وبالمناسبة هذا العمل حصل على جائزة الملك فيصل العالمية عام 2004.ولقد سجلت حديثاً مع الدكتور أحمد درويش الذي كان عميداً لكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس بن سعيد  في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، للإذاعة العمانية تحدثت فيها عن المشروع المشترك بيني وبين الدكتور محمود فهمي حجازي عن تكليف طلاب الدراسات العليا بإعداد معاجم للشعر والشعراء، وشعراء الجاهلية بالذات، وقد قام مجموعة من الزملاء في البلاد العربية الأخرى بانتهاج نفس النهج مع طلابهم، وطالبت في إذاعة عمان بأن توزع دواوين العربية في العصر الجاهلي على البلاد العربية المختلفة طبقاً للقدرات المالية لكل بلد، ثم ننتقل من دواوين الجاهلية إلى مؤلفات القرون التالية للعصر الجاهلي، وبذلك يصبح لدينا معجم تاريخي للغة العربية،ولكن للأسف لم يتحقق هذا الحلم حتى الآن ؛ لأن العمل الجماعي لدينا ضعيف جدا، والعالم اللغوي الشهير (فيشر) كتب عن هذه القضية أيضا. ومجمع اللغة العربية بالقاهرة من أحد أسباب نشأته التأريخ للغة العربية والمسؤولون عندنا لا يريدون الإنفاق على الثقافة.

 

§        أليس من العار ألا يكون شيخ المحققين العرب حسين نصار عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة ؟

- أنا لا أحسن تسويق نفسي وانتخابات مجمع اللغة العربية تقوم على التسويق، والانتخاب من أحد عيوب الديمقراطية، لأن الشخص المنتخب ليس من الضروري أن يكون الأفضل، وأرى أن أفضل حكم هو حكم الفرد العادل (المستبد العادل) ونحن نفهم المستبد بطريقة خاطئة، فالمستبد باللغة العربية معناه الصحيح الفرد وليس الاستبداد سيىء السمعة.

لكن أين هذا المستبد العادل ؟ وإذا عثرنا عليه، فأين أسرته وجيرانه وأصدقاؤه. وأتذكر الخليفة عمر بن الخطاب عندما يقرر إصدر قانون كان يجتمع بأهل بيته ويقول لهم: " أنتم أول من يسأل عن هذا "، وإذا كان البيت سليماً فأين المقربين والموالين ؟!

 

لهذا لا ينقضي عجبي من تهالك بعض من يسمون أنفسهم كتاباً أو مفكرين على الشهرة والوصول والضجيج والظهور في الصورة وحرصهم على أن تكون لهم (جوقات) أو شلل تدق لهم الطبول، وتدوي بالثناء والتهليل، وتبذل الجهود المستميتة في التقديم والتفسير والتحليل لأعمال يشك في أن أكثرها يرقى أصلاً إلى مستوى الفن أو الفكر أو ينطوي على أية قيمة جمالية وإنسانية حقيقية.

 

§        كيف تقيم دور التراث في زمن العولمة والتكنولوجيا والثورات ؟

ليست دراسة التراث دفاعاً عن الماضي أو تعويضاً عن مآسي الحاضر، وهروباً من أزماته وتخل عن تحدياته، بل هو دخول في معارك الحاضر. فالتراث مازال حياً في قلوب الناس ويؤثر فيهم سلباً وإيجاباً، يلجؤون إليه وقت الأزمات، ويحتمون به ‘إذا اشتدت بهم غوائل الدهر. يسمعونه في أجهزة الإعلام والمساجد ويتربون عليه في المدارس وفي البيوت ويضع لهم معايير السلوك ويحدد لهم تصوراتهم للعالم، بل إنه أكثر حضوراً من الحاضر نفسه لأنه حضور معنوي وفعلي، ذهني ومادي، عقلي وحسي.فالتراث واقع وليس مثالاً وإن تمت إزاحته بدعوى الواقعية، فهي إزاحة للواقع نفسه وتخل عن النظرة العلمية.وليس الموقف من التراث هو القبول المطلق كما تفعل بعض الحركات السلفية أو الرفض المطلق كما تفعل الحركات العلمانية، لأن التراث ليس كلاً واحداً، بل متعدد الجوانب والأصل الرابع للتشريع وهو الاجتهاد يقوم على أن كل جديد له أصل قديم، وكل أصل قديم يمكن تطويره في جديد.

 

§        بلغت الآن سن التسعين – أمد الله في عمرك – ما المشروع الذي كنت تتمنى إنجازه ولم يتحقق ؟

- عندما كنت أستاذاً مشرفاً، كنت أتمنى أن أحقق موضوعين وأمنح فيهما رسائل علمية للطلاب وهما: التفسير والنحو.ولم أستمر في هذا المشروع ؛لأني وجدت أن الطلاب لا يحققون المثال الموجود في ذهني فأهملت المشروع لأنه ينبغي على من يتصدى لهذه المهمة أن يكون الطالب دقيقاً بحيث يستطيع قراءة كل شيء ويستنبط ويضيف وهذه آليات منهج البحث العلمي، وبعدما أنجزت رسالتين توقف المشروع.

كما أتمنى إنجاز معجم لتاريخ اللغة العربية ولكن لا يوجد حماس للمشروعات العلمية على الرغم من أن المكتبة العربية أغنى مكتبة في العالم حيث يمتد عمرها إلى خمسة عشر قرنا ونستطيع أن نقرأ دواوين الشعراء الجاهليين ونفهم معظم ما فيها ونحتاج إلى القواميس لمجرد مجموعة ألفاظ بسيطة عكس اللغات الأخرى، كما أن استخدام الكمبيوتر يسر لنا كل شيء  ولكن لا يوجد اهتمام للأسف.