مجلة البيان

العاطفة تهزمُ الآيديولوجيا

§        حالة تسلّل ماكرة، خطّطت لها جنودُ الإيحاء، وعذارى التعبير الجمالي.

§   الحوارُ بينَ شخوص وأبطال الرواية، يأخذ شكلَ الحديث التلقائي، ولكن ليسَ ذا شجون، فهو بمثابةِ الحكّ على الجرح، ولا يوحي بشفائهِ، بلْ بصعوبة التخلص من آلامهِ.

"فالتاريخُ المعيشُ كانَ حماقة ً قاسيةً، والتاريخُ المكتوبُ متاهة.. مفاتنُ وطنيّة زائفة"– ماريا باراجاس أيوسا/الفردوس في الناصية الأخرى – ص283.

"إنَّ العواطفَ هي صورة ٌ عفوية ٌ للسلوك" – كارلوس فوينتس/ كرسي النسر-ص 148.

العاطفةُ – لغة ُ النور!!

الآيديولوجيا – لغة ُ الظلام!! وبينهما إنسانٌ، خارجَ الزمن، ينحازُ أبداً لأبجديةِ النور التي يصعبُ على جندِ الظلامِ قراءة حرفٍ من حروفِها، أوْ فكّ شيفرة جملها الرشيقة، وهي بحبرِ الروحِ، ورماد الجسد!!

" ثرثرة بلا ضفاف".. رواية الواقعِ – الحُلم ِ!!

        الحُلم المتلوّ بيقظةٍ حزينةٍ قاتمةٍ، في لحظاتها توقعات – صدأ الروح، تتراوحُ بينَ اليأس والأمل، (اليأس) سلطة بلا تيجان ولا أوسمة، و(الأمل) ممالك شاسعة في الروح، وبامتداد المدى، وبجغرافية في اللامكان!!

 

        "ثرثرة بلا ضفاف".. حالة تسلّل ماكرة، خطّطت لها جنودُ الإيحاء، وعذارى التعبير الجمالي، وهم بأمرِ كاتبة كبيرة لها حضورها  في مملكة الكلمات، وسلطة السرد، إلى عالمِ الحياة العربية التي نعرفها ونعيشُ دقائقها الصدئة بألمٍ، ونتكهن توقعاتها بروحٍ وجسدٍ ناحلين مهدّمين، دونَ الخوض كثيراً في دهاليز السياسة الحالكة، ويظل التطرقُ إلى ويلاتِ كوارثها بحذرٍ شديد.. يصاحبهُ تسلّلٌ  هادئ، مُبرمجٌ  مقصود إلى تفاصيل حياة العالم الآخر (الغرب) الذي يسعى أبطالُ الرواية  جلّهم، وهمُ  مفتونون حتّى الهوس بتضاريسه إلى معرفتهِ أكثر، بلْ العيش على إيقاعهِ.. وأحلامهِ.. والارتواء من عذوبة أنهار حريته وهي في تدفقٍ دائمٍ.. وهذا العالم (يتكلمُ أكثرَ من لغةٍ) على حدّ تعبير باولو كويلهو!!

انعتاق من الواقع العربي

        (مزهر السماحي)  الكاتب والفنّان السينمائي القادم إلى باريس – مدينة النور وهو يعيشُ لحظاته المخملية، بكلّ حريّةٍ، ومن دون مراقبة أيّ سلطةٍ وأيّ تقاليد وأعراف – سجون الواقع العربي، وكأنهُ  وهو يفخرُ ويزهو بلحظاتِ الترف والانعتاق هذهِ، ينتقمُ لنفسهِ من ماضيه (العربي)، ومن اللحظات التي عاشها في بلدهِ بخمر النسيان (لحظة الانتقام الوحيدة) – بتعبير بورخيس  من ناحيةٍ.. ومن ناحيةٍ أخرى، وهو يغتسلُ  بأضواء باريس، يحوّلُ الواقع العربي والحياة العربية، مقارنة ً بحياة الغرب، إلى  موضوع يُمكنُ  أن يضيفَ إلى معجم الفنّ والسينما شيئاً قريباً من (الكوميديا السوداء)، تقومُ على (النقدِ الذاتي) الذي يبدو من خلال أبجديته هدّاماً  لا مغيّراً، وهو يعودُ بنفسهِ عبر (الفلاش باك) إلى حياتهِ حينَ كانَ شاباً يدرسُ في لندن و(ساقتهُ حفلات الكلية إلى التعرّف على زميلة قدّمت نفسَها إليه على أنّها يهودية).. ولأنَّ  هذا التعارف تعدّى إلى لغةِ الجسدِ، وتدخّل شيطان الرغبة – أعلى سلطةٍ في الجسد كما يقولُ سارتر، لا يقهر هذهِ السلطة الأزلية إلاّ جينات المخاوف والقلق العربي: (لمْ يكنْ خوفه يرجع إلى كونها يهودية، وإنما ما تفسّر بهِ الأجهزة العربية التي لا تكفّ عن مراقبةِ العرب من الشباب خاصة ً إذا عرفوا بهذهِ الليلة الفريدة) – ص9.

رديف عبقرية البساطة

        (مزهر السماحي).. وفي ترابِ كلّ خطوةٍ يخطوها فوقَ هذهِ الأرض الغريبة عليه، يرسمُ (بورتريها) لنفسهِ بكلّ ألوان (الألاعيب) التي يحبّها ويفضلها، وهي  تشكّلُ  جلّ  وقتهِ، ودونَ أن يعي، فأنَّ هذا البورتريه بكلّ  ألوانهِ الفسيفسائية هو لـ(العربي) الذي تنقضّ عليه صواعق حياة الغرب، فيجد نفسَه ظلّ إنسانٍ آخر: (هذهِ الألاعيب هيَ حياتي) – ص8.

        (سالم) شخصية أخرى، يذوبُ كلّ جزءٍ من جسدهِ  في خمر النقمة من كلّ شيءٍ عربيّ، يصنعُ من السلبياتِ العربية لوحة ً تشكيلية ًبكلّ ألوانِ الكراهية، ويطبعُ منها نسخاً توّزعُ مجاناً، وكأنّهُ هو الآخرُ لهُ طريقتهُ في الانتقام حتّى التشفي من ماضيه، ومن حياتهِ ووقته العربي المهدور، كمواطن خارج الجغرافيا والتاريخ والزمن.. وكلّ شيءٍ  في باريس ابتداءً من (المولان روج) وانتهاءً بـ(قوس النصر) لديه هو فعلٌ عبقري، يُظهرُ مدى العجز العربي بكلّ كيميائه، ورداءة الواقع الذي يخلو من أيّ شيءٍ يُذكّرُ بـ(الأمل) و(الفرح) و(المستقبل)، وفقَ أسلوب (المفارقة الساخرة) وهو رديف عبقرية البساطة في التعبير الذي ميّزَ أسلوب الكتابة لدى الروائية الكبيرة فاطمة يوسف العلي: (اعتادَ السيد سالم في زياراته لباريس أن يعرج  على المولان روج  ليشاهد العرض الذي يثير شهيته للضحك، ويوقظ غيظه السياسي من استمرار الحال العربي على ما هوَ عليه) – ص14.

 

        (مزهر السماحي) إحدى الشخصيات الفاعلة في هذا السرد المتقن الهادف، وحسب صحيفة الواقع الذي عاشهُ، وهو المفتون أيضاً بكلّ شيءٍ في باريس التي استعمرت بلدَه سنيناً طويلة، قدّمَ مواطنوه خلال فترة الاستعمار عديد الشهداء، وطرّزت أرضها بالسجون والمعتقلات، وعذابات النفي، وزرع الفرقة بينَ مواطنيها البسطاء، بينَ (العربي) و(الأمازيغي).. وها هي الآن تستعمرهُ  روحياً بأضوائها  الخلابة، ولغتها  التي لمْ تعُدْ (منفى) كما رآها مواطنه الشاعر الجزائري مالك حدّاد، بل (هبة) لـ(السماحي): (إنهُ مدين لهذه المدينة بلغتهِ الفرنسية الجميلة التي يكتبُ بها الشعر، ومدين لها بقبوله للحياة فيها، بعد أن ضاقت بهِ بلده) – ص17. والقلق الذي عاشهُ في بلده، وفقده للأمل والأمان جعلهُ يرى (المستقبل) رديف الحياة الحقيقية، بلْ المحرك للحياة – الأمل – الفرح، لذلكَ منحته مواهبه دفقة الأمل هذهِ، فقرّر إصدار صحيفة لا تحمل إلاّ اسم (سيدي.. المستقبل)، أمّا لقاؤهُ بالمرأة الأمازيغية (أدبيرج) جعلَ عطرَ الأمل نفاذاً طاغياً..!!

        (السماحي) وهو يقرأ ملامحَ المدينة – باريس يوتوبياه الدنيوية، يعكسُ  لهُ فسفور السطور ملامحه كعربي، وهو يسلّط كشافه، وينقّبُ في تراب الذاكرة، فيقف على بقعةِ سوداء في الشخصية العربية وهي (الرغبة) متعة العربي الوحيدة في أيّ مكانٍ تطأهُ قدماه، ووفق كيمياء الكبت معقدة العناصر.  

        لقاء (السماحي) بـ(سالم) محض مصادفة، رتّبت لهُ دموع وآلام وجراح الماضي، لتؤسّس لعلاقة حميمة بين الاثنين و(هكذا وجد نفسه واقعاً على مسافةٍ قريبةٍ جدّاً من سالم، يشاركهُ الحملقة في الدموع المنسابة بقوة المطر مِنَ العينين المطفأتين، هكذا تمّ اللقاء على غير انتظار، أو موعد أمامَ عينين تبكيان) – ص27.

        (أدبيرج) المرأة – المواطنة الجزائرية الأمازيغية في بورتريه، أجادت الكاتبة تنسيق ألوانه، بريشة روح الأنثى المنحازة لجنسها، وإصرارها على تأكيد وهجها الأنثوي المدهش، وتأنيث الزمان والمكان معاً، فأنَّ لـ(أدبيرج) فلسفتها في الحياة التي تقومُ رياضياً على (قوة الدفع)، وإنسانياً حميمياً على (المصادفة).. وكلّ الأمور بالنسبةِ إليها (تسيرُ بقوة الدفع)، كما تعلمت  وهي صغيرة بمدرستها من علم الرياضيات، وأنها (تثق في المصادفة) كهبةٍ من هبات الوقت والحياة، مهما كانت هذهِ المصادفة خيراً أو شراً، فرحاً  أو حزناً، وأوشكت  أن تكون (أدبيرج) وأمّها (بريدة بنت حلبس) الجزائرية ضحية هذهِ المصادفة كنز روحها الذي لا ينفد، حين كانت من نصيب (رجل الأعيان) كزوجةٍ من دون غيرها: (وكانَ الجميع سعداء بالزواج، وكانت هي أسعد الجميع، لأنه وعدها أن تدرسَ في باريس، وهكذا صبرت على الحياة معهُ بقوةِ الدفع، لأنّها ظلت زوجة عذراء) – ص33.. ولم تحمل (المصادفة) هذهِ المرة فأل خير، لأنَّ الزوج (ينقصهُ شيء)، فاقد الرجولة في أدقّ تعبير، واحتكمت (أدبيرج) لقانون المصادفة المكتوب على ورق الريح، فحكمَ القاضي بالتفريق بينها وبينَ رجل الأعيان..!!

روح متشظية

        (سالم) الخليجيّ المرفّه، في بورتريه آخر مختلف، ألوانه محض وهمٍ وخيالٍ، روح متشظية بينَ الواقع والخيال، بينَ الحقيقة والحُلم، بينَ نداء الجسدِ ونداء الروح، يقنع ذاته بأنه يعيش (الحرية) وهو في الحقيقية (سجين) الشغف الذي هو ترجمة دقيقة لنداءات وإيعازات الروح.. يعتقدُ أنه (بقدرتهِ الاستغناء عن أي شيءٍ في العالم) – ص37. ذلك هو مصدرُ قوتهِ، كلّ شيءٍ في العالم يراهُ (كماليات) لا لزوم لها، باستثناء (الماء والهواء والطعام)، ومن عطر هذا الشغف جنونه بالوحدة، يُريد أن يشعرَ أنه  وحيد (لا أحد يراقبه)، فوقعَ في شغف الرحلةِ، وكانت الملهمة بامتيازٍ (باريس) مختصر العالم لديه..!!

 

" الحوار في الروايةِ يخدمُ قبلَ كلِّ شيءٍ مهمّة التجسيد"- أندريه مالرو!!.

والحوارُ بينَ شخوص وأبطال الرواية (السماحي، سالم، فلوة، أدبيرج)، يأخذ شكلَ الحديث التلقائي، ولكن ليسَ ذا شجون، فهو بمثابةِ الحكّ على الجرح، ولا يوحي بشفائهِ، بلْ بصعوبة التخلص من آلامهِ، كلّ ذكرٍ للعربِ محبط لهذهِ  الشخوص، وليسَ ثمّة أملٍ، قطرة مطرٍ – فرحٍ، توحي بها غيوم هذا الحديث المتشعب  في أبجديتهِ الغامضة والعسيرة:

فلوة: (إنَّ الأسرة نظامٌ لا يُمكن الاستغناء عنهُ، أقصد نظام نهائي في الحياة الإنسانية) – ص44.

السماحي: (نظام نهائي أرضي، فلا تنسي أنَّ العالمَ مُقبلٌ على عصرٍ فضائيّ) – ص44.

سالم: (ولكننا خارجَ هذهِ التطلعات، انظر إلى عناوين صحفنا، ونشراتِ أخبارنا، حتى نوع الحوادث والجرائم..!

لولا الرقابة، الفيلم السياسي هوَ النغمة المطلوبة) – ص45.

فلوة: (أنتَ نفسك قلت: إنَّ العربَ خارج تطلعاتِ العصر) – ص45.

السماحي: (هلْ يُؤلمكَ أن أقولَ لكَ: إنَّ العرب همُ آخرُ مَنْ يُفكّر في هذا الكائن الخرافي الذي اسمه المستقبل) – ص48.

سالم: (العربُ دائماً تفكيرهم مُتأخر) – ص48.

أدبيرج: (تقصد أنَّ العربي يُريدُ دائماً أنْ يتباهى بالماضي، وأنَّ هذا يشغلهُ عن التفكير في المستقبل) – ص49.

وهكذا.. وعلى أضواء باريس، وإيقاعها الحياتي المخمليّ، يُلغى كلّ  تاريخ وتراث وفكر للعرب، متناسين أنَّ شخصياته العلمية والفكرية والأدبية هيَ مَنْ وضعت اللبنات الأولى للحضارة الإنسانية، لنصبحَ تحتَ ذبذبات سحر باريس: (كلّنا خارجَ العصر) – ص50.

. من مهام السرد NARRATIV التنقيب والكشف، والرواية فنّ الاكتشاف بامتياز!! و(الروائي مستكشفُ للوجود) – كما يقول ميلان كونديرا..وهو الباحث المنقّب في دهاليز الوجود وأزقة الحياة، ليفتحَ  صنابير الضوء  عبرَ كشافهِ – الكلمات.. فالحوار دارَ بحضور القاضي (العاطفة)، والشهود (الانتماء) بينَ (فلوة) و(أدبيرج) مطلعٌ مُتقنٌ لقصيدةِ رثاء غاضبة، مُتمرّدة في تفعيلاتها  الخارجة على قوانين (الخليل بن أحمد الفراهيدي)، ومَن جاءَ بعده من أساتذة العروض  والفصاحة، وهي تجسّد الجانب المظلم من الحياة العربية التي تبدو بلا ملامح، حينَ تحكمُ آيديولوجيا الاحتلال، ولا بديل للعربي  فيها إلاّ صورة المُسْتَعمَر، وقدْ ذاق حليب الإذلال، وويلات الاحتلال وهوَ في رحمِ أمِّه:

قالت أدبيرج: (هكذا نشأنا فوجدنا كلّ شيءٍ على حالهِ، طنجة في يدِ الأسبان، كما أنَّ جزر الخليج في يدِ إيران، والجولان عندَ إسرائيل، والشيشان عندَ الروس،

بلْ  أنَّ العربي وحاكميه خارجَ الوقت والزمن، فكلّ القضايا العربية التي تدبّجُ لها الخطب، وموضوع القصائد العصماء، هي سلعة سوق، خاضعة للمتاجرة، والعرض والطلب، حسب مزاج الحاكم، وبريق كرسيه الوثير، ووفق آيديولوجيا اللامبالاة والغرام بالسلطة لدى المحكومين والحاكمين الذين يرتبط عمرهم  بمدى معاناة مواطنيهم، وهم لا يملكون إلا تراب الأمنيات، ورثاء أنفسهم، والنقد المبطّن لحياتهم وهي تشكو من الحياة، و: (الأرض خالية تماماً من أيّ قوة دفاعية، وأنَّ العدو تقدّمَ كما تتقدم السكين وتقطع في قالب الزبد) – ص59.. تصبحُ الرواية صورة الواقع، بلْ هي الواقع الذي بدت مفارقاته الجارحة خيالاً، لنلمسَ من خلال الروايةِ التاريخ، والرواة فارّين من تفاصيلهِ التي بعدَ الخيال، وهو يُدوّنُ بحروفٍ بركانية كلّ مآسينا، وأمراضنا العصرية.. خلافات، وفرقة، وتبعية، وجنون بالسلطة، لتبدو مدننا غباراً، وصيفاً، وحزناً، وإنسانها ظلّ إنسان، وهو يشتهي نسمة صباحٍ ليس كلّ الصباحات، ورغيف خبزٍ لم يلوثهُ سعال المحتل، وإيقاع الحاكم بمشيتهِ الطاووسية:

أدبيرج: (أحوالنا في طنجة ومليلة على الواقع، كما في روايات محمّد شكري!!

قالت فلوة كلمة واحدة لم تعرف كيف أفلتت من شفتيها:- مصيبة!-ص62

"فالإنسان المعاصر مُمّزق، مُنقسم، غير مُكتمل، بلْ عدوٌّ لنفسهِ، يصفهُ ماركس بأنهُ(مغترب)، وفرويد بأنهُ (مُقمع)، فأنَّ حالة التناغم القديمة قدْ ولّت"- إيتالو كالفينو!!

        الإنسان المُمّزق هو (ضاري سهلي)، حكاية أخرى، يفيضُ في تفاصيلها سردٌ بمفردات جريئة، وبساطة باذخة، لرسم صورة بطلٍ (سينمائي) بامتياز!! مُمّيز في كلّ شيء، في هيئتهِ، في صوتهِ، وفي أسراره الدفينة التي لن تعُد أسرارا حينَ تعني الكلّ، ووجوده في مكان – مسرح الأحداث، يؤدّيها أبطال الرواية شفاهةً موجعة، وهي تحملُ الكثير، وتهدف إلى الكثير، تقرأ الماضي والآتي بما هو بليغ وعميق وجارح أيضاً..!!

   (ضاري سهلي) بورتريه مُتقن، بكلّ ألوان الدهشة والمفاجأة  والغرابة، من حيث قامتهِ، وضخامة جسمهِ ورأسه: (هلْ حقاً الكائن البشري في حاجةٍ إلى كلّ هذا الجسم الفارع ليمارسَ حياته؟) – ص63.

منظور نقدي لاذع

        ظلّ (سالم) و(مزهر السماحي) يرسمان لهُ في كلّ مرةٍ شكلاً، لا يخلو من سؤال الدهشة والغرابة: (لا بدّ أنهُ من غابات أفريقيا)، أو (لعلهُ بقية من آلِ طروادة)، وتحيّرهما حياته وطريقة عيشهِ، فيما إذا كانت تسيرُ بشكلٍ طبيعي: (كيف يُمكن لهذا المسكين أنْ يحصلَ على ملابس جاهزة) – ص64.. صوتهُ الأجش القريب من (بوق العسكر) ملائم تماماً لهيئته القريبة من سُلالة الأفيال، مع ذلك يراهُ (سالم) أنهُ (حالة عربية)، وراءه سرّ، حكايته حكاية وطن، كلاهما يفقدان السيطرة على مساحتهما، وبشيءٍ من الإنساني والسياسي يجنحُ الخيال بـ(سالم) الذي يراهُ من منظوره السياسي النقدي اللاذع (ظاهرة صوتية)، وأنّ العرب (وجودهم ليس الفعل، بلْ الصوت)، و(مزهر السماحي) يرى في (ضاري) حالة سينمائية، وهي بينَ الكوميديا والتراجيديا، وربّما المزج بين النوعين.. وهذا الرجلُ حالة خاصّة، جادة في ما تخفي وراءها من أسرار وقصص وحكايا، ولا يليق بها هذا الأسلوب الساخر الذي فاضت بهِ قريحتا (سالم) و(السماحي)!!

         (ضاري سهلي) عراقي من مدينة البصرة حيث يلتقي النهران العظيمان (دجلة والفرات) بكل ما في إيقاع أمواجهما من حزنٍ أزليّ وفرحٍ مُؤجّل.. تساعدهُ في جرّ عربات همومه وحكاياته الغريبة زوجته السورية (ودودة) التي رفض أبوها لها أن تتجنس بجنسية زوجها (ضاري)، وبمرور الأيّام بكلّ ما فيها من مآسٍ، وجدت في كلام أبيها حكمة ونبوءة: (كلّ الأقطار على كفّ عفريت)، وقدْ تيقنت أن والدها المرحوم (مكشوف الحجاب، عندما تعثر خطونا لمْ ينقذنا غير الجواز السوري) – ص72.

        و(ضاري) و(ودودة) ضحية وطنٍ سجين  الآيديولوجيا، والوطن والمواطن سجينان معاً، ولكن حريتهما القصوى، هذهِ المساحة من العاطفة – الحبّ، حديقتهما المشمسة التي هزمت بهندسة ألوان ورودها، وغناء أطيارها كلّ جندِ الآيديولوجيا التتريين، وألغت كلّ الحواجز الإسمنتية التي وضعها الإقليميون بينَ الشعوب العربية التي ظل جواز سفرها الصالح حتّى انتهاء الزمان هو الحبّ والعاطفة والتآلف والحميمية.. لحظة انتصارهم الوحيدة،.. يٌقهَرُ المواطن العربي، ويعاني من الاستعمار والاحتلال واليتم والنزوح، ولكنه لا يُهزم، وهو المواطن الشامخ برئة الشمس، وأقدام الجبال، كنزه الذي لا ينفد عاطفته ُ، حبّهُ، حميميتهُ، همُ الوطن بصباحٍ جديدٍ.. وربيعٍ جديد.. ومطرٍ جديدٍ.. وغدٍ  أجمل!!

         (ضاري سهلي) المواطن العربيّ المنكوب في قبضةِ الآيديولوجيا الهدّامة، وهو (الوطني المخلص)، وهو الدكتور – البروفسور في علمِ "الأجنة"و (قلبهُ وروحهُ في خدمةِ الوطن)، وما عليه إلاّ أن يكونَ  حافظاً لـ(سرّ الدولة)ـ سرّ الوطن، وحفظ السرّ هذا متوقّف على مدى إخلاص الأجيال القادمة التي ستولدُ، وحراب الآيديولوجيا  ترعبها، وهي لمّا تزل جنيناً في رحمِ الأمّ، وما على (ضاري) دكتور الأجنّة إلاّ أن يجعلَ من أرحامِ الأمّهات مختبراً – خلية، يخرجُ مَنْ يولدون وهو راضعو آيديولوجيا الحزب الحاكم، بدلاً من هواء الوطن، وحليب الأمّ، وعسل الأحلام: (نريدُ مادة فعّالة نضيفها إلى أقراص التقوية التي تُصَرفُ للحوامل، تجعل الجنين المولود الشاب أو الشابة فيما بعدُ، يُصدّق ما نقوله، يطيع ما يصدر إليه من أوامر، يُقدّس القيادة التاريخية، ويُؤمن بالرسالة الخالدة للحزب دونَ سواها) – ص87.

فانتزيا الخيال

     ولا بٌدّ لـ(غير الممكن) في رأي (ضاري)، أن يصبحَ (ممكناً) في رأي (الرفيق)، وغير الحقيقي أن يصبحَ حقيقة، والحلمُ واقعاً حتّى لوْ كان مُرعباً، ما دامَ دكتور الأجنّة قدْ قالَ في أبحاثهِ: (إنَّ التحكمَ في التوجّه الذهني والعصبي للجنين مُمكن) – ص88.. ولا يحقّ للمواطن أن يتضايقَ أو يغضب  ممّن يجدون في أنفسهم (رموزاً) للوطن، وهم (يجلسون على القلوب)، ولا يشعرون بعواصف العاطفة الهوجاء لدى المواطن، ولا بحركة الزمن، وأصداء الكون.. ليصبحَ (ضاري سهلي) بطلاً لفيلم سينمائي، يتولى (مزهر السماحي) إخراجه وتنفيذه، وهو يعيش كلّ تفاصيل حكاية (ضاري) التي فاقت في بلاغتها الجارحة كلّ قصّص الفانتازيا  والخيال: (أنا أحكي ما جرى، أمّا التشكيل الفنّي فلهُ أناسهُ) – ص90.

        (ضاري) يتجرّأ على (الرفيق) باتهامهِ بعدمِ فهم كلامه، وغضب (الرفيق) هو بالضرورة غضب(الرفيق الأعلى).. وعلى المواطن (ضاري) أن يتحمّل مجرياتِ وتبعات ما سيحدث له،، و(التعاسة ثمنُ الذكاء)ـ كما يقولُ كارلوس فوينتس، وبسبب عدم تنفيذه لأوامر الرفيق أيضاً، ولا تخفى على أحدٍ أساليب السلطات التي تحكم وفق آيديولوجيا  الأحزاب البرجوازية، وهي لا ترى في مرآة  الواقع سوى نفسها، وأوامرها مُطاعة ومجابة قبلَ أوامر الله: (الذي أعرفهُ أنّني صحوتُ من النومِ، وجدتني في غرفةٍ نائيةٍ، مُجرّد غرفة في صحراء.. غرفة فقط) – ص93.. وحدة، وقلق، وخوف، مسلسلُ رعبٍ كامل، تلكَ هي كيمياء الآيديولوجيا  والسلطة (مصدر كلّ شرّ) و(إلى نكران) بتعبير أوسكار وايلد: (انقذ حياتَك يا دكتور) – ص95..و(حتّى لو حقّقت للرفيق الركن ما يريد مَنْ يضمن لي حياتي؟.. فإنّني لوْ مكنتهم من هذا العقار المقترح، لن تصبحَ لي عندهم أية فائدة، بلْ سيكون من الخير لهم التخلص منّي حتّى لا يتسرّب الاختراع، أو تجري التجارب على عقارٍ مضادٍ لهُ) – ص95.

    وبفعل (الحقن المهدئة)، وأمصال التغذية المريبة، وبدلاً من (اختراع الأجنّة) المطلوب، تمّ صنع إنسانٍ – مواطنٍ آخرَ، خارجَ كلّ المواصفات، بهذا الشكل الغرائبي، وهذهِ الهيئة التي تعيدُ سُلالة الديناصور يمثلها  الدكتور (ضاري سهلي).. النموذج  للإشمئزاز من الجنس البشري، حينما يكون في يدهِ السلطة!!

        "إنَّ الحبَّ الفعّال شيءٌ قاسٍ رهيب، إذا قيسَ بالأحلام التي يحملها المرءُ عنهُ"- دستوفسكي – الإخوة كرامازوف / ص77.

الحبُّ في (ثرثرة بلا ضفاف) يهزمُ  الآيديولوجيا..!!

        والعاطفة الصادقة تغسلُ ما علق بجسدِ المواطن من غبار وأدران السلطة، وليسَ إلاّ الحبُّ!! وليسَ بعدَ سحر القصائد، وموسيقا الأخيلة، ومفاتن السرد الهادف إلاّ همسات الحبِّ الصاخبة، وفوران براكين العاطفة.. (مزهر السماحي) و(أدبيرج بنت مضياف) يتزوجانِ على سُنّة الحبِّ، والشاهد طيف الأوطان، وحميمية مواطنيه الذين سكنهم غربة مزمنة في (عرس قومي حقيقي) على ضوءِ القلوب المثقلة بحُبّ الوطن البعيد – القريب.. زواجٌ مُباركٌ بزغاريد (ودودة) التي جاءت إيقاعاتها الإنسانية بمثابة التوقيع على الزواج، و(ختم الدولة) على شرعيته: (وأطلقت زغرودة ريانة، مُجلجلة، طويلة مدربة، جعلت نصف موظفي القسم القنصلي بالسفارة يغادرون مكاتبهم ليروا ماذا جرى) – ص101. وجاءت بلاغة القرآن، وهي  لا تعلو عليها بلاغة، بكلّ مفرداتها الإنسانية تتويجاً للحبِّ والعاطفة، وعرساً بمذاق التديّن للروح الظامئة للإلفةِ والتواد: (هُنَّ سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهُنَّ).. و(اكتملَ الرجلُ من المرأةِ، واكتملت المرأة من الرجل) على حدّ تعبير د.ه لورانس. (أدبيرج) سكنٌ لـ(السماحي) بكلّ تضاريس الدفءِ والحنان، و(ودودة) بكلّ  وهج سرّها الأنثوي سكن وبيت (ضاري سهلي) بعدَ أن أصبحَ الوطن – الدفء والسكن بعيد المنال، وهو المسوّر بحراب الآيديولوجيا وصولوجانات السلطة، وهي ليست سوى عكاكيز بالية: (تراءى لها وجه ضاري الطيب المسكين، تجسّدت أمامها أنواع المعاناة المهولة التي مرَّ بها، وكيف أنه إلى اليوم لا يجد لنفسهِ وطناً وسكناً يطمئن إليه)- ص106.

        مساحة الودّ التي زرعها (سالم) بورودِ الذات الحميمة، وهو يدعو صديقيه إلى زيارة ٍ عائلية لمدينته (الخليجية)، تخلّلتها وعكّرت صفوَ عطرها حكايات وقصّص لا تخلو من جراح للذات العربية، ومفارقات ساخرة أحياناً للتاريخ العربي، أخذت شكل الكوميديا السوداء: (نحنُ أمّة الخرافات والعنتريات والعشق والآهات، وغير هذا لنْ تجدَ   عندنا شيئاً) – ص118.. ومن حكاية (ضاري سهلي) في الهروب من نيران الآيديولوجيا، وكمائن السلطة إلى أحضان (ودودة) وهي تفيض عليه بوهجها الأنثوي الإغوائي.. إلى حكاية غياب الوعي لدى العربي التي تغرّد بها قريحة (سالم) بمناسبةٍ وغير مناسبة، مؤيداً فرضيات (ضاري سهلي): (ولكن المشكلة في حياتنا العربية، أننا نعرف أشياء كثيرة، ولكن حياتنا تمضي على وضعها القديم دونَ تغيير، وكأننا لمْ نعرفْ أيَّ شيءٍ) – ص119. وحكاية (ضاري سهلي) هي حكاية (الآيديولوجيا) – الفكر، وجهل العربي في التعامل مع أبجديات هذا الفكر، ليكون مطابقاً لصيغهِ وشعاراته.. صالحاً – فعلاً- لبناء الإنسان، وليسَ موته أو دفنه حيّاً.. ولازدهار وتقدّم وطنٍ، تتوسلهُ الصباحاتُ والأمطارُ والربيعُ سكناً دائماً لها، وليسَ منفى وسجناً ومقبرة: (كلّ ما فكروا فيه عقار، مشروب، حقنة، كبسولة طعم، يحوّل الناس من حولهم إلى آلات مطيعة وأدوات لخدمتهم) – ص120.

" لقدْ كنتُ حالماً عظيماً على الدوام، ففي الأحلام أغدو أكثرَ حيوية ممّا في الواقع" – هرمان هسِّه!!

        أينَ نحنُ من بطل (هرمان هسِّه) هذا في روايتهِ الجميلة (دميان) ؟؟ ونحنُ نبدو بلا أحلام، وإذا كان العالمُ يرى في الحلمِ كنزاً، وباولو كويلهو يوصي بـ(عدم التخلي عن أحلامك)، و(الحلم يجيء على إثره حلم) – كما يقول هرمان هسِّه أيضاً.. نحنُ نُنهي سُلالة الأحلام والحالمين.. قالَ (سالم): (ولماذا أحلُم؟) – ص122.. لنبدو  في خريطة العالم، وإنسكلوبيديا الحياة: (أقلّ الناس أحلاماً) – ص122.

التشرذم والاختلاف

" الحزنُ يبدأ ُ عندما تنتهي الرواية " – إمبرتو إيكو!!

        وبدلاً  من أن نقيمَ مسلّة للحبِّ  والعاطفة، نتوّجُ أيّامنا، ونطرّز صفحاتِ تاريخنا الذي صنعهُ الأجداد والآباء، وهم يقاومون العدوان والطغيان والمحتلين، بإضافة صفحات الفرقة والتشرذم والاختلاف واحتلال أراضي بعضنا البعض، ونفتعل حروباً تحصد إنساننا المقهور، وحقولنا التي غادرتها الشمس، وتنكرت لذكر اسمها كلّ سجلات الربيع والنسمات والمطر، لنخرجَ من التاريخ والزمن والحياة معاً..!!

   الروائية(فاطمة يوسف العلي) في (ثرثرة بلا ضفاف) تكشفُ، وتبحثُ، وتنقّبُ في تربةِ الواقع.. في القديم والجديد من آلامنا وهمومنا العربية، بأسلوب (السهل الممتنع)، خلاصة ذبذبات أصابع ماهرة، وقريحة طازجة  في نغمها الإنسانيّ الحميمي.. بأسلوب أبجديته الإيقاظ والتنبيه إلى حدّ الاستفزاز، وذلك هو دور الإبداع الجاد، وتلك هي مهمة المبدع الذي يضبط  نبض قلبهِ على إيقاع الوطن، وهو يقرعُ أجراس الخطر، يبعث بالكلمات النيزكية، ليشعلَ الحرائق، يقوّضُ مدن السكون والصمت والموت بعواصف الحلم – الإبداع – الحياة.. لا يضعُ حلولاً، ليست هذهِ مهمة  الإبداع!! هو مرآة ناصعة للواقع، اختصار العالم – المتاهة LABYRINTHE.. وهذا ما فعلتهُ الكاتبة والروائية د. فاطمة يوسف العلي، وإذا كان ثمّة أسئلة في (ثرثرة بلا ضفاف) فالإبداع سؤال دائم.. وأنّ الإجابة عنهُا في فسفورِ أبجديتها..!!